الإقتصاد من فكرة فلسفية إلى علم يخدم البشرية
إن مادة الاقتصاد ليست مجرد موضوع أكاديمي حكرا على العلماء والمتخصصين بل إن في الاقتصاد مفاهيم لا بد لكل فرد كائنا من كان أن يلم بها. فلعل بعض المؤسسين لهذا العلم أوقعوه في المعارك الجدلية الفلسفية التي لا تنتهي، وهذا موجود بطبيعة الحال في مختلف العلوم، إذ الأصل دائما في أي علم أن يبدأ بعد إثارة تساؤلات لظواهر يصعب تفسيرها، لكن في اللحظة التي يراد بها تفسير هذه الظواهر لا بد من الانتقال من المرحلة الفلسفية إلى المرحلة العلمية المجردة، التي تتناول الواقع بصورة موضوعية بعيدا عن الانحيازات والاتجاهات الفكرية المختلفة. وكل علم في بدايته لا بد من أن ينشأ بصورة بسيطة لينتهي بعد ذلك بمعادلات معقدة، نظرا لتداخل العوامل المبحوثة وتطورها، والاقتصاد مثله مثل باقي العلوم في ذلك. إن أول خطوة يمكن اتخاذها لنجعل من كلامنا الفلسفي وجودا علميا هو إمكانية تحويل هذه المقولات والاقتراحات إلى بيانات رقمية يمكن قياسها، لأنه كما هو معروف لا يمكن الحكم على شيئ من دون قياسه، وكل فكرة لا يمكن تحويلها إلى أرقام تبقى حبيسة الأوراق ولا تتحول إلى واقع ملموس في العلم التجربيبي.
إن لكل علم سبب وراء نشوئه وعلم الاقتصاد ليس استثناء. فهو نشأ بسبب مشكلة وتطور لينتج حلولا للمشكلة، كما أنه لم ينشأ فقط ليحل مشكلة الندرة النسبية للموارد وتعدد الحاجيات البشرية، وإنما ليرسم الطريق الواضح لتجنب الوقوع في هذه المشكلة من خلال وضعه لأهداف يخدم بها الإنسانية وتكون حافظة للأجيال من المجاعات والحروب الاقتصادية بين الدول، هذه الأهداف التي يسعى لتحقيقها هذا العلم هي النمو والاستقرار والعدالة الاقتصادية.
نحن بحاجة إلى توصيل مفهوم علم الاقتصاد إلى عموم الناس من دون أن نخوض في الجزئيات فهذا شأن المتخصصين، ولكن نريد ان نفهم الكليات وتحقيق ما يمكن تحقيقه من إحداث الوعي العام بأهمية الازدهار الاقتصادي على كافة الأصعدة.
ولعل الاقتصاد في أساسه ينقسم إلى قسمين، قسم يحاول استقراء الواقع وقسم يحاول وضع الحلول لهذا الواقع، فالأول يقرر حقائق، أما الثاني فهو يحاول تغيير أمر ما إلى أفضل منه، ثم نجد التقسيم السائد المعروف وهو الاقتصاد بشقيه الكلي والجزئي، ولعل أنسب طريقة للتفريق بينهما هو ان لكل نوع نماذج ومعادلات تحكمه،فمثلا قرار الدولة بدعم السلع وتأثيره على السوق، يدرس ضمن نطاق الاقتصاد الجزئي رغم شموله الدولة، أما معرفة تأثير هذا القرار على سعر الفائدة فهذا ضمن نطاق الاقتصاد الكلي لأن سعر الفائدة من المتغيرات والنماذج الكلية.
أما مبدأ الزبدة أو البندقية وهو من القرارات الاستراتيجية الهامة للدولة، والتي يتوجب عليها أن تختار بين الانفاق على السلع الهامة للمواطنين كالصحة والتعليم أو الانفاق على الدفاع والتسلح، وهنا تقف الدول مواقف متباينة في الأهمية النسبية لأوجه الانفاق وهذا يرجع إلى ساسة هذه الدول وصناع القرارالذين يقدرون حاجتها من هذين النوعين من السلع.
في النهاية صحيح أن الاقتصاد يصنف كعلم وهذا أمر لا شك فيه، إلا أنه على الصعيد السياسي يستخدم كسلاح قوي في مواجهة التقلبات والتحالفات العالمية، فمبدأ العصا والجزرة هو الأساس في الحراك الدولي، فيستخدم الاقتصاد احيانا كعقوبات وحظر لنشاطات الدولة وتضييق على منتجاتها، وفي أحيان أخرى كمكاسب واستثمار وتبادل تجاري وفتح افاق أوسع لضخ السلع، فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، ونتيجة هذا التداخل الكبيربين الاقتصاد والسياسة وتأثير كل منهما على الاخر بصورة مباشرة او غير مباشرة نشأ ما يعرف بالاقتصاد السياسي.