مقالات العدد

حول التيارين الإسرائيلي والأمريكي في الخليج

بعد تخفيف قيود كورونا 2022، قمت بزيارة مجاملة لرئيس مركز دراسات يتبع جهة سيادية حكومية بدولة عربية، وبعد ان أكرمنا بالقهوة المرة وبعض ”الدرابيل“ والتمر، تناولنا أطراف الحديث، وذكرت له فيما ذكرت: أننا نرصد وجود تيارين رئيسيين يتحركان بفاعلية بمنطقة الخليج، ويتداخلان مع سياسات دولها، وهما التيار الإسرائيلي والتيار الأمريكي، وأن التياران مستقلان ويتنافسان أحيانا.

وبدا مضيفنا مصدوما وغير متقبل لهذه النظرية. بل ذهب أبعد من ذلك، وشكك بأي طرح حول تباعد تحركات الإسرائيليين وأهدافهم عن الامريكان، بل وتحدث عنهما كأنهما توأمان سياميان ملتصقان من جهة الرأس!

ولأن السياسة هي مجموعة طلاسم، تتدثر أحداثها تحت ركام هائل من الغموض، اضطررت لتوضيح بعض الأساسيات لقواعد العمل الاستراتيجي في الخليج، علّنا نصل إلى النتيجة الخاصة بالتيارين: الإسرائيلي والأمريكي في الخليج.

كنا حينها قد خرجنا للتو من أزمة حصار قطر، ومازالت النفوس مرهقة من هول ما حصل، واستحضرنا حقيقة أن حاجة بعض دول الخليج لـ ”دعم خارجي لإقرار تغييرات داخلية جوهرية“ هو ما أدخلها بحالة تنافس (ارتقى إلى درجة الصراع الصفري بأقصى مراحله ثم تراجع بعد ذلك). وهنا كان الرهان على استجلاب الدعم الخارجي من أي قوة معتبرة اقليميا، ومنها إسرائيل.

ولكن الإسرائيليين هم أنفسهم ومنذ اعلان دولتهم في أزمة: فدولة إسرائيل قامت بإسناد غربي، وارتباطها الوجودي بالغرب: هو ارتباط عضوي يتعلق باستمرارية كينونتها كدولة، لذا يشعر الإسرائيليون بضرورة الاستقلال جزئيا (وليس استراتيجيا) عن كل ذلك، وتحقيق ثمة مصالح مع محيطها العربي بشكل مباشر باعتبارها دولة قائمة ذات نفوذ دولي واسع، وان كانت مازالت منبوذة أو غير مقبول اندماجها كدولة طبيعية بمحيطها.

هنا تحرك الإسرائيليون وحاولوا استغلال الحاجة للدعم – المشار إليه -، ولمسوا تجاوبا جريئا، تجاوز البراغماتية إلى حد الانصهار والتماهي التام (ببعض القضايا أحيانا). كان المبدأ واضحا جدا: التطبيع الخليجي مقابل دعم دبلوماسي دولي وإقرار لمعطيات جديدة بتلك الدول. ووصل الأمر إلى حد محاولة استخدام العلاقة مع  إسرائيل (من بعض الدول المتجاوبة) لأجل التأثير على الامريكان أنفسهم (دبلوماسيا أو عبر لوبيات ضغط)، سعيا لاستحصال موقف أو دعم أمريكي، تمنّع وتأخر طويلا، خصوصا مع تغير ساكني البيت الأبيض مع الانتخابات الرئاسية.

هؤلاء الذين تحركوا وانجرفوا مع التيار الإسرائيلي في الخليج اصطدموا بعنف مع الدولة العميقة الأمريكية لاحقا، والتي راهنوا أنها ستظل في الظل حتى 2024، ثم غيّر صعود بايدن جميع الحسابات، وصارت المواجهة مع الدولة العميقة الامريكية مباشرة، وتعاظم التمايز بين التيارين: الإسرائيلي والأمريكي في الخليج، ومعها برزت تباينات عميقة بين بعض دول الخليج والإدارة الامريكية. صحيح انها لم تؤثر على التحالفات الاستراتيجية التقليدية بين الولايات المتحدة وتلك الدول، ولكنها حتما أثرت على قوة وفاعلية هذه التحالفات.

ولأن الإسرائيليين ذوي طبيعة اقصائية عموما: اضطرت بعض الدول الخليج للوقوف بمربعات شديدة المبالغة إبان حصار قطر، وربما كان ذلك تماهيا مع الروح الإسرائيلية المتعاكسة مع روح الأمريكان الساعية للاحتواء وتحقيق المصالح بأقل الخسائر ولو تطلب ذلك صبر استراتيجيا طويل الأمد.

الأن: يبدوا الأمريكان والإسرائيليون بحالة خلاف جدي وواضح، الأمريكان غير راضين عن النهج اليميني لحكومة نتنياهو، وهو بدوره يتشبث بكل الخيارات لتثبيت ائتلافه الحالي بمعطيات ترضي التيارات اليمينية الاقصائية، والتي تتعارض مع بعض مصالح الولايات المتحدة وأولوياتها في الشرق الأوسط.

لا يهمنا هذا النزاع حاليا، فهؤلاء الحلفاء يختلفون اليوم، وقد يتصالحون غدا، وسيصعدون مرة بعلاقاتهم ثم يهبطون، وكل هذا طبيعي جدا، لكن ما يهمنا اننا بالخليج دفعنا ثمنا غاليا للسماح لتيارات خارجية بالتغلغل اكثر مما ينبغي. صحيح أن بنية الدول والأنظمة لها سياقات لازمة من الدعم الدولي الخارجي، وهذا مطلوب ومشروع ومتفهم، لكن حين تتجاوز تبعات التمادي مع تيارات خارجية بعض الثوابت: تكون العواقب سيئة للجميع. علينا ألا ننسى بأن الجغرافيا: قدر!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى